أمريكا بعد قرارات ترامب: بين تآكل الديمقراطية وصراع المؤسسات

بقلم : المحامي علي عوني الرجوب
ناشط سياسي ومستشار قانوني
تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية نموذجًا تقليديًا للديمقراطية الدستورية، حيث يقوم نظامها السياسي على توازن دقيق بين السلطات الثلاث: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية. إلا أن الإجراءات الأخيرة التي اتخذها الرئيس السابق دونالد ترامب لإعادة هيكلة وزارة العدل ووضع قيود على السلطة القضائية، تثير تساؤلات جوهرية حول مستقبل الديمقراطية الأمريكية. فهل نحن أمام تحول جذري في شكل النظام السياسي، أم أن المؤسسات الأمريكية ستظل قادرة على امتصاص هذه الصدمات والتكيف معها؟
قرارات ترامب وتأثيرها على القضاء الأمريكي
تشير التقارير إلى أن ترامب، في سعيه للعودة إلى الحكم أو تعزيز نفوذه السياسي، يعمل على إعادة تشكيل السلطة القضائية عبر عدد من الإجراءات التي تهدف إلى ضمان ولاء الجهاز القضائي له. من أبرز هذه الإجراءات:
1. تعيينات قضائية موالية: منذ ولايته الأولى، ركز ترامب على تعيين قضاة محافظين في المحاكم الفيدرالية والمحكمة العليا، واليوم يسعى إلى تعيين المزيد من القضاة الذين يتماشون مع رؤيته السياسية، مما قد يؤثر على قرارات المحاكم لعقود قادمة.
2. التحكم في تمويل المؤسسات القضائية: تشير التقارير إلى أن ترامب يحاول تقليص التمويل الممنوح للهيئات القضائية المستقلة، ما يعني إجبار المؤسسات القضائية على التبعية السياسية لضمان بقائها.
3. إلغاء القضايا القانونية ضده وضد حلفائه: من خلال توجيه وزارة العدل لإسقاط القضايا المتعلقة به وبمعاونيه، يسعى ترامب إلى حماية نفسه من أي ملاحقة قانونية مستقبلية، الأمر الذي يقوّض سيادة القانون.
4. تشويه صورة القضاة المعارضين: بتصريحاته التي تصف القضاة الذين لا يتماشون مع قراراته بأنهم “يساريون، شيوعيون، ومثليون”، يستخدم ترامب خطابًا شعبويًا يستهدف تحييد أي صوت معارض داخل النظام القضائي.
التداعيات القانونية والسياسية لهذه الإجراءات
1. انهيار مبدأ الفصل بين السلطات
تقوم الديمقراطية الأمريكية على مبدأ “الضوابط والتوازنات”، حيث تراقب كل سلطة غيرها لمنع أي تغوّل سياسي أو استبداد. إلا أن هذه الإجراءات تهدد بتقويض دور القضاء كسلطة مستقلة، وتحوله إلى أداة سياسية في يد السلطة التنفيذية، مما قد يمهد لمرحلة يكون فيها القضاء مسيسًا وغير قادر على أداء دوره الرقابي بفعالية.
2. تآكل سيادة القانون واستقلال القضاء
عندما يصبح القضاء مسيّسًا، فإن أهم ركيزة في الدولة الحديثة، وهي سيادة القانون، تصبح موضع شك. فإسقاط القضايا ضد شخصيات سياسية معينة، أو تحريكها ضد معارضي النظام، يعني أن العدالة لم تعد تُطبق وفق معايير محايدة، وإنما وفق مصالح سياسية. وهذا يهدد الثقة العامة في النظام القانوني، ما قد يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية وسياسية.
3. التأثير على النظام الانتخابي
إذا تمكن ترامب من السيطرة على القضاء، فقد يكون لذلك تأثير مباشر على الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة. فقد تتخذ المحاكم قرارات تميل لصالح الحزب الجمهوري، ما قد يؤدي إلى مزيد من الشكوك حول نزاهة الانتخابات ويزيد من حدة الاستقطاب السياسي في البلاد.
4. تصاعد المعارضة الداخلية والخارجية
على المستوى الداخلي، من المتوقع أن يواجه ترامب معارضة قوية من الحزب الديمقراطي ومن بعض الجمهوريين التقليديين الذين لا يتفقون مع سياساته الراديكالية. كما قد تؤدي هذه السياسات إلى احتجاجات شعبية واسعة، خاصة من قبل الجماعات الحقوقية والمدنية.
أما على المستوى الدولي، فقد تؤدي هذه القرارات إلى تآكل سمعة الولايات المتحدة كدولة تحترم سيادة القانون والديمقراطية، ما قد يؤثر على علاقاتها مع حلفائها التقليديين ويعزز الخطاب المناهض لأمريكا على الصعيد العالمي.
ما هي السيناريوهات المستقبلية؟
* مقاومة مؤسساتية تقود إلى كبح جماح ترامب
قد تتمكن المؤسسات الأمريكية من التصدي لهذه المحاولات من خلال آليات قانونية ودستورية، مثل تدخل الكونغرس أو إصدار أحكام قضائية تعيق تنفيذ هذه القرارات. في هذه الحالة، سيكون النظام الديمقراطي الأمريكي قادرًا على حماية نفسه من محاولات التسييس والاستبداد.
*. نجاح ترامب في فرض رؤيته السياسية على النظام القضائي
إذا تمكن ترامب من السيطرة على القضاء، فقد يكون لذلك تبعات طويلة الأمد، مثل إصدار قرارات قضائية منحازة لصالحه، وهو ما قد يجعل أي معارضة سياسية تواجه عقبات قانونية كبيرة. في هذه الحالة، ستتحول الولايات المتحدة إلى نموذج قريب من الأنظمة الشعبوية التي تهيمن فيها السلطة التنفيذية على باقي مؤسسات الدولة.
*. تصاعد الانقسامات الداخلية وصولًا إلى أزمة دستورية
إذا استمرت هذه السياسات في التوسع، فقد تؤدي إلى أزمة دستورية، حيث يصبح هناك صراع مفتوح بين السلطات، وربما يصل الأمر إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي الحاد، مع احتمال لجوء بعض الولايات إلى تحدي الحكومة الفيدرالية عبر التشريعات المحلية.
تمثل الإجراءات التي يقوم بها ترامب اختبارًا حقيقيًا للديمقراطية الأمريكية. ففي حال تمكن من فرض سيطرته على القضاء، فإن ذلك سيشكل سابقة خطيرة قد تغير طبيعة النظام السياسي الأمريكي لعقود. ومع ذلك، فإن المؤسسات الأمريكية، التي صمدت في وجه أزمات سابقة، قد تكون قادرة مرة أخرى على مقاومة هذا التحدي، ما سيحدد شكل أمريكا في المستقبل القريب.
السؤال الذي يبقى مفتوحًا هو: هل سيتمكن النظام الديمقراطي الأمريكي من حماية نفسه من هذه الموجة الاستبدادية، أم أن الولايات المتحدة تتجه نحو عهد جديد من الحكم السلطوي المغلف بالشعبوية؟
الجواب متروك للقراء