عشر سنوات على مأساة الشعب السوري- المسؤولية والحل
متابعة لمقالي الأسبوع الماضي حول الذكرى العاشرة للمأساة السورية والذي خصصته للمعاناة الإنسانية بدون التطرق للسياسة، رأيت أن أتابع الموضوع، خاصة بسبب التعليقات الكثيرة التي تلقيتها، في محاولة لاستجلاء أسباب هذه المأساة ومسببيها، وهل هناك من ضوء في نهاية النفق؟
لكن هل هناك إمكانية لتحليل الأوضاع في سوريا، وعرض أسباب هذه المأساة ومن يتحمل مسؤوليتها، وكيف يمكن الخروج منها بشكل موضوعي؟ هل من أسلوب يضع الحقائق بقدر من الموضوعية، ويعرض طرفي المعادلة بما لها وما عليها، فيظهر عيوب النظام وجرائمه الأوحش في التاريخ المعاصر، ويعرض ضعف المعارضة وتفككها وارتهانها للخارج، ويقر باختطاف الثورة من سلميتها من دول البئر النفطي بالتنسيق مع أعداء الأمة التاريخيين، وتحويلها إلى جماعات تكفيرية وشلل إرهابية؟ هل يمكن تحليل الأسباب التي أدت إلى غياب المعارضة الوطنية، واستبدالها بجماعات ظلامية تكفيرية همجية، تجز الرؤوس وتحرق الكنائس، وتدمر التراث وتجتث الأقليات باسم الإسلام.
عشر سنوات مرّت على الثورة السورية السلمية عندما كان يمثلها رموز مثل، حمزة الخطيب وإبراهيم قاشوش وعبد الباسط الساروت وعبد القادر صالح وغياث مطر ومي سكاف وعلي فرزلي ورزان زيتونة وياسين الحاج صالح وفدوى سليمان وغيرهم. طويت صفحة سلمية الثورة، وتحولت إلى المواجهات العسكرية والغارات الجوية والقذائف الصاروخية والبراميل المتفجرة. شهدت سوريا بعدها دمارا وحروبا ونزوحا وتهجيرا وقتلا وتعذيبا، يعجز عنها الوصف. شُتت نصف الشعب السوري ودُمرت مدنه وقراه ومعالمه التاريخية، واستبيحت أرضه وامتلأت السجون بعشرات الألوف، ومازال الآلاف مسجلين مفقودين، وتعطلت الحياة الطبيعية وأغلقت المدارس، وانزلق أكثر من 60% من الشعب السوري تحت خط الفقر وخطر الجوع.
أول من يتحمل المسؤولية هو النظام الذي حول البلاد إلى عقار شخصي، يورثها الأب للولد، ويملأها تماثيل بكل الأحجام للزعيم والقائد الأبدي والفارس والطبيب. نظام حوّل البلاد إلى جمهوملكية على طريقة عائلة كيم في كوريا الشمالية، فاتحا بذلك شهية العديد من أنظمة الطغيان الأخرى، باتباع المسار نفسه. أجيال تعاقبت على سوريا لم تعرف إلا الأب والابن في جمهورية الرعب، وأجهزة المخابرات المتعددة التي تحصي على كل فرد أنفاسه. لقد علّمت مجزرة حماة عام 1982 الناس أن الحل الأمني هو الأسرع والأسهل، والأقل كلفة، والأكثر تأديبا لمن تسول له نفسه أن يتحدى النظام ولو بكلمة أو أغنية أو شعار، أو منشور أو بيان أو تنظيم، أو تجمع أو حديث أو نقد أو تذمر. ومع مجيء بشار الابن بطريقة لا علاقة لها بالدستور، أو الشرعية أو الديمقراطية، كانت هناك فترة ارتياح وتمنيات، ما دعا مجموعة من الغيورين على وطنهم أن يصيغوا بيان الـ99 فيما سمي «ربيع دمشق» الذي طالب أولا بإلغاء حالة الطوارئ، لكنه لم يدم أكثر من ستة أشهر من خطاب الرئاسة الأول بتاريخ 17 يوليو 2000 إلى 17 فبراير 2001، وضع بعدها معظم موقعي البيان في السجن، وأقفلت المنتديات السياسية والأدبية، وأغلقت منابر التعبير أو فرص التجمع أو المعارضة تحت أي ذريعة أو مبرر. لقد حدثت الانتكاسة وعادت سوريا إلى سابق عهدها، كما وصفها الشاعر نزار قباني «دولة قمعستان».
فشلت المعارضة السورية في صياغة برنامج سياسي وطني يلتف حوله الشعب صاحب المصلحة الحقيقية في إنقاذ البلد من مأساته
لم يتردد النظام عندما وصلت أخبار درعا، عن أن يستخدام القوة المفرطة، ويحاصر المدينة، ويعتقل الأطفال ويقطع الطرق والممرات على درعا ويقتحم المساجد. تعامل مع من صرخوا مطالبين بالكرامة والحرية في الساحات، أنهم خونة يجب استئصالهم بالحديد والنار، وأطلق يد الشبيحة والمخابرات والأجهزة الأمنية والميليشيات الطائفية. استخدم النظام كل أنواع العنف والقتل والتعذيب والتشريد والحصار والاغتيال والخطف، ليس لمن يشارك في المظاهرات، بل لكل أفراد عائلة المشارك وأقاربه. واستطاع بسرعة أن يجر الثورة الجماهيرية السلمية إلى مربع العسكرة الذي يريده ويتمناه ويخطط له، وينصب الفخ وراء الآخر لإيقاع الثورة فيه، وقد نجح في ذلك، خاصة بعد أن أطلق سراح 1400 معتقل متطرف كانوا في طريقهم إلى العراق. لقد عمل النظام بذكاء على تغيير وجه الثورة الجميل في بداياتها الواعدة، إلى صورة أخرى مغايرة، يمثلها رجال مسلحون متطرفون يمارسون القتل والتدمير وتفجير السيارات المفخخة في الميادين العامة. أثناء هذا التحول من ثورة سلمية إلى ثورة مسلحة دخل على خط الثورة فرقاء خارجيون، ليسوا معنيين بسوريا ولا بشعبها ولا بحريتها ولا بمستقبلها، ولا بدورها التاريخي ولا بقدراتها، وعملوا على تخريب سوريا الوطن والدولة والبنى التحتية، والإمكانات العسكرية والاقتصادية والعمرانية، كل ذلك لخدمة مخططات التفتيت والبلقنة، التي تسعى إليها إسرائيل منذ يومها الأول.
قامت دول النفط وبتنسيق مع أمريكا والأردن وتركيا إلى صب مليارات الدولارات لتحويل الاحتجاج السلمي إلى حركة مسلحة، وهو ما سعى إليه النظام ليبرر إطلاق كل أدوات الموت. تقاسمت الدول المجاورة وغير المجاورة الأدوار، وأنهوا المعارضة السلمية، وزجوا في الساحة بكل أنواع المتطرفين الذين توالدوا مزيدا من الفصائل، ومزيدا من التطرف والإرهاب، وتحولت البلاد إلى مغناطيس يجذب كل لص ومغامر وتكفيري وقاطع طريق، مأخوذين بسحر الفوضى والجنس والسلطة وجز الرقاب، فانتهت البلاد إلى دكاكين تتنازع فيما بينها على من يقطع مزيدا من الرؤوس، ويشرد ويهتك الأعراض، ويدمر مواقع التراث التي تحمل بصمات ستة آلاف سنة من الحضارة المتواصلة. لم يعد المشهد مقتصرا على جبهة النصرة و»داعش» بل انتشرت التنظيمات المسلحة المدعومة من الخارج، في كل أنحاء سوريا. الولايات المتحدة من جهتها عملت على تسليح وتدريب الجماعات الكردية لتزج بهم في المعركة، وبعد انتهاء دورهم تخلت عنهم ليواجهوا مصيرهم أمام الجيش التركي، الذي عبر الحدود وسيطر على الشريط الحدودي ويدخل الآن في معارك طاحنة معهم.
تتحمل مسؤولية هذا الخراب أيضا، المعارضة السورية الهشة التي لم تتفق على شيء، فراحت منها مجموعات تدعو لعسكرة الثورة، وأخرى ارتمت في أحضان الأنظمة العربية والأجنبية، وجماعات غيرها تطالب بالتدخل الأجنبي على الطريقة الليبية، وكأن حسابات الغرب تتطابق مع وهم هذه المجموعات. انضمت للمعارضة جماعات عميلة تتلقى أوامرها من دول الخليج والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وحتى إسرائيل. تشكيلات ومجموعات سياسية، وتكتلات ذات مشارب ومرجعيات وأفكار وحلول متباينة، وكل مجموعة ترى أنها صاحبة المشروع الصحيح، وأنها هي التي تستحق أن تمثل الشعب السوري وتتولى قيادته. تبعثرت هذه المجموعات وتشتتت وانتهى بها الأمر، إما ملحقة بالمنظمات الإرهابية المتطرفة، أو تلعب دورا هامشيا لا يعيره أحد أي انتباه. لقد فشلت المعارضة السورية في صياغة برنامج سياسي وطني جامع واحد يلتف حوله الشعب السوري صاحب المصلحة الحقيقية في إنقاذ سوريا من مأساتها. صحيح أن النظأم أعاد السيطرة على معظم أنحاء سوريا، لكن سوريا الوطن وسوريا الشعب وسوريا الجغرافيا ما زالت مفككة. وجيوش دول كبرى وصغرى مازالت ترابض على أرضها. دخول النظام الإيراني وحرسه الثوري والميليشيات الشيعية مثل، كتائب أبو الفضل العباس وعصائب أهل الحق العراقية ثم حزب الله اللبناني، كلها لم تستطع حماية النظام إلى أن دخلت روسيا في سبتمبر 2015 بقوتها وجبروتها، لتحمي النظام ولو تم تدمير البلاد وقتل مئات الألوف فيها. سيادة سوريا لم تعد في يد السوريين، بل حصريا في أيدي الأنظمة الروسية والتركية والإيرانية، بينما تعربد الطائرات الإسرائيلة فوق المجال الجوي السوري بدون رادع أو حتى إدانة ولو خجولة من الشريك الروسي. لقد فشلت كل محاولات احتواء الصراع سلميا، انطلاقا من إعلان جنيف الصادر بتاريخ 30 يونيو 2012 والقرار التاريخي 2254 (2015) المستند إلى إعلان جنيف، ورغم أن خيرة الوسطاء الدوليين حاولو وفشلوا بداية من كوفي عنان فالأخضر الإبراهيمي، ثم ستيفان دي مستورا، وصولا إلى غير بيدرسون، إلا أن الأزمة مستمرة. تبخرت مجموعة ما كان يسمى «أصدقاء سوريا» وبدأت بعض الأنظمة العربية بقيادة الإمارات تعمل على إعادة تأهيل النظام وإعادته إلى الجامعة العربية. لكن الوقت مبكر للتأكد من توسيع هذا الاتجاه، الحقيقة التي نعتقد أن الجميع سيعود إلى الإقرار بها وهي ألا حل للأزمة السورية إلا بالعودة لبيان جنيف والقرار الدولي 2254 انطلاقا من تشكيل لجنة دستورية تمثل كل أطياف الشعب السوري، تصيغ دستور سوريا المستقبل، القائم على التعددية والحرية والديمقراطية والانتخابات الحرة وتبادل السلطة وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان الأساسية، وإلا سنبقى نعد الضحايا والمجازر واستخدامات الأسلحة الكيميائية ويبقى الناس مقسومين بين من يصنف الرئيس السوري بأنه بطل مغوار، وأن معارضيه إرهابيون، ومن يرى أن الرئيس السوري سفاح لم ير العصر الحديث مثيلا له في الإجرام، ولا حل إلا بإسقاطه. لقد ثبت بعد عشر سنوات أن السيناريوهين لا يمثلان خريطة طريق سليمة للحل. لعل الإدارة الأمريكية الجديدة تحمل أفكارا جديدة ومبادرات قابلة للتطبيق بالتعاون مع الدول الثلاث.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي
عبدالحميد صيام