للمهتمين فقط .. هل ولد يسوع في 25 ديسمبر ..؟؟
الشريط الإخباري :
حتى أواسط القرن الثالث الميلادي لم يكن باستطاعة آباء الكنيسة الاتفاق على تحديد شهر ويوم ميلاد يسوع، ولذلك فقد كان المسيحيون الأوائل يحتلفون به إما في 20 إبريل / نيسان، أو في 20 مايو / أيار، أو في 6 يناير / ك2 وهو اليوم الذي يبتدئ فيه فيضان نهر النيل في مصر، واعتُبر مناسبة للاحتفال بميلاد الإله أوزيريس. وقد بقيت هذه المسألة موضع جدل إلى أن أقر البابا ليبيريوس في عام 354 م أن يسوع المسيح ولد في 25 ديسمبر / ك1 . وفي الحقيقة فإن تاريخ يوم الميلاد هذا يتعارض مع رواية الميلاد في إنجيل لوقا التي تقول إن رعاة مبتدين كانوا يحرسون قطعانهم عندما ظهر لهم ملاك الرب وقال لهم أنه وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلّص هو المسيح ( لوقا 2: 8-11). فالكل يعرف أن شهر ديسمبر ليس الوقت المناسب لخروج الرعاة لرعي قطعانهم، لأن السهول في هذا الوقت تكون خالية من العشب والكلأ الصالح للرعي. فلماذا تم التغاضي عن هذا الخبر في النص المقدس، وصُرف النظر عن الميلاد الربيعي إلى الميلاد الشتوي الذي يتوافق مع يوم الانقلاب الشتوي في 25 ديسمبر ؟ قبل الشروع في الإجابة التفصيلية على هذا السؤال، سوف نلقي نظرة على معنى وأهمية هذا اليوم لدى العديد من الثقافات العالمية .
في القارة الهندية كان هذا اليوم مناسبة احتفالية كبرى قبل قرون عديدة من العصر المسيحي. وفي الصين اعتُبر يوم الانقلاب الشتوي مقدساً، وكانت تُغلق فيه الحوانيت ويتوقف الناس عن العمل. وفي فارس كانت تقام أفخم الاحتفالات في هذا اليوم الذي اعتبروه عيد ميلاد إله الشمس. وكان المصريون القدماء يعيِّنون يوم حبل الإلهة إيزيس بابنها حوروس في اليوم الأخير من شهر مارس /آذار ويوم ولادتها به في 25 ديسمبر، عندما كان المحتفلون يخرجون من معبد حوروس وهم يحملون صورة الطفل الإلهي مثلما تُحمل صورة البامبينو (أي الطفل الوليد) اليوم في روما لتعرض على المحتفلين بميلاد يسوع. وكان عباد الإله أدونيس والإله باخوس خلال العصر الهيلينستي والروماني يحتفلون بميلاد هذين الإلهين في يوم الانقلاب الشتوي، وتقول أسطورة ميلاد أدونيس أنه ولد في مغارة كما ولد يسوع في أناجيل الطفولة المنحولة. وكان للجرمان القدماء احتفال في يوم الانقلاب الشتوي يدعونه احتفال يولي Yole، فيه يتم تجديد العهود والمواثيق وتُقدم القرابين إلى الآلهة وتشعل النار في جذوع أشجار مقطوعة. وقد بقيت كلمة يولي حتى الآن في اللغة الألمانية للدلالة على عيد ميلاد يسوع. وفي بريطانيا وإيرلندا كان السلتيون القدماء يحتفلون بالانقلاب الشتوي بإشعال الحرائق على رؤوس الجبال والمرتفعات. ومن حضارة العالم الجديد في أميريكا لدينا العديد من الشواهد على قدسية يوم الانقلاب الشتوي والاحتفالات الدينية التي كانت تقام في هذا اليوم .
على أننا إذا أردنا فهم المؤثرات الثقافية المباشرة الكامنة وراء اختيار الكنيسة ليوم الانقلاب الشتوي باعتباره يوم ميلاد يسوع، علينا تضييق مساحة الخلفية الثقافية ذات الصلة بهذا الموضوع، وحصرها زمنياً في القرون الميلادية الثلاثة الأولى، ومكانياً في الرقعة الممتدة من نهر الفرات السوري شرقاً إلى نهر التيبر الإيطالي غرباً ومن البحر الأسود شمالاً إلى مصر جنوباً. ففي هذا المُتَّصَل الزماني المكاني نشأت التصورات الفلسفية والدينية ذات الصلة بموضوعنا .
إله الشمس الحمصي :
ابتدأ تدفق الآلهة الشرقية على روما منذ دخول القائد الروماني بومبي إلى سورية عام 66 ق.م . ولكن الطبع الروماني المحافظ لم يقبل طقوس الآلهة المستوردة إلا بعد تهذيبه للكثير من أصولها الشرقية وجعلها منسجمة إلى هذا الحد أو ذاك مع الطابع العام للديانة الرومانية التقليدية. في عام 193م وعقب اغتيال الإمبراطور كومودوس، نجح القائد العسكري سبتيموس سيفيروس ذو الأصول الفينيقية الأفريقية في القضاء على اثنين من منافسيه على العرش، ودخل روما منتصراً حيث سلمه مجلس الشيوخ الرداء (الأرجواني ) القيصري، وحل في القصر الإمبراطوري مع زوجته السورية جوليا دومنا ابنة كاهن الشمس في حمص وملكها. وكان سيفيروس قد تزوجها عندما كان قائداً للفيلق العسكري الروماني الرابع المتمركز في سورية .
كان الحكم في مدينة حمص بأيدي أسرة شمسي غرام ، والتي كان ملوكها يقبضون على زمام السلطة الزمنية والدينية بيد واحدة في ظل نظام حكم ثيوقراطي. ووفق التنظيم الإداري الجديد للمنطقة السورية فقد تم تثبيت أسرة شمسي غرام الحاكمة في حمص تحت سلطة الوالي الروماني المقيم في أنطاكية. خلال الفترة التي نتحدث عنها هنا كانت حمص تحت حكم جوليوس باسيان الكاهن الأكبر لمعبد إله الشمس المدعو إيلاجا بال (إله الجبل). وقد حافظت عبادة إله الشمس الحمصي على الطابع الأصلي للعبادات (الساميّة ) التي لم تكن تصور آلهتها في هيئة بشرية تنزيهاً لها، وإنما ترمز إليها بحجر طبيعي غير منحوت غالباً ما يتخذ شكلاً مخروطياً. كان حجر معبد حمص على ما يصفه المؤرخون حجراً أسوداً لا يزيد ارتفاعه عن الـ60سم، ذا رأس مستدق وقاعدة عريضة، وكان الكهنة يجللونه برداء مزركش صقيل عليه صورة نسر وهو الرمز الشائع للألوهة الشمسية، ويقيمون أمامه الطقوس في قدس أقداس المعبد .
لم يرزق الكاهن باسيان بأولاد ذكور وإنما بابنتين، الأولى جوليا دومنا وهي الكبرى والثانية جوليا ميسا ( = ميساء ). وقد عمل ما في وسعه ليقدم لابنتيه ثقافة منفتحه جمعت بين الحكمة الشرقية والفلسفة اليونانية، وأوكل إليهما منذ صغرهما خدمة إله الشمس في معبده، وهكذا فقد تشربت جوليا دومنا ديانة إيلا جابال التي ضربت جذورها في أعماق نفسها وزودتها بنظرة شمولية عالمية. فقد كانت عبادة الشمس في حمص عبادة توحيدية، ولكنها لم تكن بالتوحيدية المتعصبة التي لا تعترف بالديانات الأخرى، وإنما توحيدية منفتحة ترى أن كل أشكال العبادة هي طرق تؤدي إلى معرفة الله الحق .
عندما استقرت جوليا دومنا في روما وراحت تشارك زوجها شؤون الحكم، أجبرها حسها البراجماتي كإمبراطورة على إخفاء ميولها الدينية، ولكن أفكارها الإنسانية العالمية تبدَّت في سلوكها العام. فقد راحت تتصل بالأدباء والفلاسفة وأحاطت نفسها بهم، وكان يحضر مجلسها في بيتها الصيفي مفكرون من مختلف الشيع والمدارس الفلسفية. من بين كل هؤلاء كان فيلوسترات هو الصديق المقرب إليها، وقد وضع بإيحاء منها وبالتعاون معها كتاباً دعاه " حياة أبولونيوس "، عبَّر فيه عن أفكار جوليا دومنا في احترام جميع الأديان، والنظر إليها كصيغ فكرية تسعى إلى غاية واحدة .
أما سبتيموس سيفيروس الذي انتقلت إليه من زوجته هذه الرؤية الدينية العالمية، فقد تأثر بعبادة شمولية أخرى هي عبادة الإله سيرابيس التي نشأت في مصر منذ أوائل عصر البطالمة الذين حاولوا أن يجمعوا في شخصه آلهة الشرق والغرب معاً وتلتقي عنده خصائص الآلهة طراً، وهذا ما أسبغ عليه لقب بانثيوس، أي كل الآلهة. وقد انتقل هذا الإله إلى روما وطمحت عبادته لأن تكون عبادة أممية تجمع شعوب الإمبراطورية حول إيمان واحد، وكان عدد من الأباطرة الرومان ميالين إلى هذه العبادة مشجعين على انتشارها، وبينهم كاليجولا وتيتُس وفبسبازيان. وتروي أخبار فيسبازيان أنه كان يشفي حالات العمى بقوة إلهه سيرابيس. ونظراً لطبيعته هذه فقد حصل على لقب بانثيوس، أي كل الآلهة .
عندما ورث كركلا إبن جوليا دومنا عرش أبيه حافظ على عبادة سيرابيس، ولكنه بتأثير أمه طابق بينه وبين إله الشمس الكلاسيكي هيليوس الذي كان إله الشمس السوري يختفي وراءه. وتظهر على نقوش كركلا الهالة المشرقة للشمس ورمزها التقليدي الآخر وهو الأسد، ويظهر القيصر وهو يرفع يده اليمنى مشيراً إلى الشمس. في عهد كركلا لم يكن لإله الشمس اسم يدل على منشئه، غير أن أحداً لم يشك في أنه إله الشمس الحمصي لأن الأم كانت حمصية الأصل ومن نسب أسرة كهنة إيلاجا بال. ولكن هذا الإله أسفر عن وجهه السوري بعد اغتيال كركلا، عندما رفعت الفرق العسكرية المرابطة في سورية إلى المنصب الإمبراطوري الفتى باسيان حفيد جوليا ميسا الأخت الصغرى لجوليا دومنا، والذي أُطلق عليه اسم جده الكاهن باسيان وكان وريثه في منصب كاهن الشمس .
وصل باسيان إلى روما بزيه الكهنوتي المشرقي، ولم يرتد بعد ذلك الزي الروماني إلا مكرهاً وفي مناسبات قليلة. بعد استقراره في العاصمة تفرغ باسيان لخدمة إلهه إيلاجا بال والتبشير بديانته، فاستقدم الحجر الأسود من حمص وبنى له معبداً في روما، وراح يقود بنفسه بصفة الكاهن الأعلى طقوس المعبد، ويرقص حول المحاريب على ألحان الجوقات المؤلفة من نساء سوريات وإيقاع الطبول والصنوج. وكان من بين مشاهدي هذه الطقوس كبار أعضاء مجلس الشيوخ وطبقة الفرسان، وكان ذوو المناصب العليا في الدولة يشاركون فيها .
لقد كان باسيان تحت تأثير التصورات الدينية لوطنه، وكل ما حرك عواطفه كان له أصل في الطقوس السورية أو الشرقية بشكل عام، وهو يظهر فيما وصلنا له من صور على هيئة شاب بوجه ناعم وشفتين ممتلئتين ونظرة عميقة حالمة تعكس استغراقاً في التأملات الصوفية. غير أن جهود القيصر الكاهن لم تتوقف عند عرض الطقوس الشرقية الغريبة على الطبع الروماني، بل كان همه يتجه بشكل أساسي إلى نشر ديانة الشمس ورفع إلهها رباً أوحداً للإمبراطورية الرومانية. وخلال سنوات فيما بين 220 و222م، بذل القيصر السوري كل جهد تبشيري ممكن، إلا أن سعيه آل إلى الفشل وتخلى عنه في النهاية كل نصير، حتى أن جدته جوليا ميسا نصحته بالاعتزال والتنازل عن صلاحياته تدريجياً لألكسيان ابن ابنتها الثانية جوليا ممايا. وفي إحدى الليالي من شهر آذار عام 222م هاجمه الجنود وقتلوه في قصره مع أمه، ونودي بألكسيان آخر أفراد الأسرة السورية إمبراطوراً تحت اسم أليكسندر سيفيروس. أما القيصر القتيل فقد خلده التاريخ تحت اسم إلهه ودعاه إيلاجا بال .
بعد وفاة إيلاجا بال وانهيار مشروعه كان على ديانة الشمس السورية أن تسلك طرقاً غير مباشرة في التبشير. وقد تمحورت جهودها أخيراً في اتجاهين معتمدة على الرواية الآدبية والفلسفة الأفلاطونية المحدثة .
هيليودور الحمصي :
كان هيليودور الحمصي من الأدباء البارزين في أواسط القرن الثالث الميلادي، وقد كتب رواية عنوانها الإثيوبيكا (أي الإثيوبية) لقيت انتشاراً واسعاً في العالم الروماني، ثم ابتُعثت مجدداً في العصور الحديثة ولقيت تقديراً كبيراً بين مثقفي عصر النهضة الأوروبية وعصر الباروك، وكانت محل إعجاب كل من رفائيل، وتاسو، وسيرفانتس، وكالديرون، وشكسبير، وراسين. تعود هذه الرواية إلى الفترة التي تلت مباشرة سقوط الإمبراطور إيلاجابال، أي إلى زمن كان الإله الحمصي فيه معروفاً للقارئ، وتدور أحداثها بين مصر وإثيوبيا، ويلعب الدور الرئيسي فيها إله الشمس الكلاسيكي هيليوس الذي لا يربطه الكاتب بمكان معين، فهو الإله المطلق الذي يعبر عن حضوره في العالم من خلال قرص الشمس الذي يشرف من عليائه على كل الأقطار، وبذلك يُخرج هيليودور إلهه من معبده ومن حجره الأسود في حمص ويبشر به إلهاً كونياً. وفي نهاية الرواية فإن القارئ الذي مال قلبه إلى هذا الإله لكونه أنقى الآلهة، ولما سمع عن أعماله وانتشار عبادته إلى بلاد الإثيوبيين، يفاجأ بأن إله الرواية هو الإله الحمصي. عندما يشير المؤلف في النهاية إلى أنه مواطن حمصي ينتمي إلى أسرة هيليوس. لقد حفظ هيليودور هذه المفاجأة لآخر القصة، وهي خدعة فنية ماهرة ومؤثرة، ولكنها تدل على ما تركه تهور الإمبراطور السوري الشاب من آثار سلبية دعت إلى توخي الحذر في الدعوة إلى الإله الحمصي القديم في حلته الجديدة.
الأفلاطونية المحدثة :
على التوازي مع الرواية كان فلاسفة سوريون من تلاميذ أفلوطين الاسكندري مؤسس الفلسفة الأفلاطونية المحدثة (205-270م) يمزجون تعاليم معلمهم مع ديانة إله الشمس السوري التي أخذت بالتقاطع مع الفكر الفلسفي اليوناني إبان فترته الخريفية .
يمثل فكر أفلوطين نهاية التفكير الفلسفي القديم، ويؤذن ببداية تفكير جديد يندمج فيه الدين بالتفكير العقلي إلى أبعد الحدود. يقوم النظام الفلسفي لهذا المعلم الكبير (الذي ما زال فكره فاعلاً في الديانات المشرقية) على فكرة تَدَرُّج الموجودات هبوطاً من المبدأ الأول عبر ثلاث مراتب آخرها مرتبة المادة التي تعتبر أدنى الموجودات. هذا المبدأ الأول يسميه أفلوطين بالواحد الخيِّر، ويندر جداً أن يطلق عليه اسم الله. ونحن إذا أردنا أن ننسب للواحد الخير صفات لما استطعنا وصفه إلا أنه بخلاف كل ما نعلم، لأنه الكمال المطلق بالقياس إلى كل ما عداه. ولأفلوطين في وصف صدور مراتب الوجود عن الواحد صور وتشبيهات مختلفة؛ إنه أشبه بفيض النور عن الشمس، أو فيض الماء عن النبع، أو صدور الأقطار عن مركز الدائرة. والصفة المشتركة بين هذه التشبيهات هي تأكيدها على بقاء المصدر ثابتاً مع صدور غيره عنه، واحتفاظه بوحدته الأصلية. وقد كانت أول المراتب صدوراً عن الواحد الخيّر هي مرتبة العقل الذي يرى الواحد من خلاله ذاته؛ وعن العقل فأضحت المرتبة الثانية وهي النفس التي تتصف بطبيعة مزدوجة، ففي جانبها الداخلي تتجه إلى أعلى صوب العقل أما مظهرها الخارجي فيهبط إلى عالم الحسن الذي تكون خالقة له، فهي أصل العالم المادي . وبذلك يكتمل الثالوث الأفلوطيني الذي تحول فيما بعد إلى الثالوث المسيحي المؤلف من الأب (=الواحد الخير)، والابن (=الكلمة، اللوغوس، العقل) ، والروح القدس (=النفس) .
لم تتخلَّ الأفلاطونية المحدثة عن عالم الآلهة المتعددة الذي ميز التراث اليوناني، ولكنها أفرغته من محتواه ومعناه وذلك بإرجاع التعدد إلى الوحدة. وبقدر ما جُردت الآلهة القديمة من جوهرها الإلهي برزت أهمية الذي احتواها جميعاً في جوهره الشامل وهو إله الشمس: العقل الإلهي المدبّر للكون. ولكن هذا الإله لم يكن إلا الصورة المرئية والأداة للواحد الكبير الذي فوقه. وتتوضح هذه الفكرة بشكل خاص لدى تلاميذ أفلوطين المباشرين والذين كانوا ينتمون إلى دائرة شرقية محددة. من أبرز هؤلاء : آمونيوس سكاس وهو مصري، وفورفوريوس الصوري نسبة إلى مدينة صور، ولونجين، وكلينيكوس، وأميليوس ويامبليخوس وجميعهم سوريون. كان فورفوريوس الأبرز بين هؤلاء وهو الشارح الرئيسي لأفكار أفلوطين. من أهم مؤلفاته الكتاب الذي يشرح نظريته في ألوهية الشمس وهو بعنوان " فيما يتعلق بالشمس ". وخلاصة آرائه في هذا الكتاب هي أن الآلهة طراً ليست إلا درجات متفاوتة من قوى إله الشمس وطاقاته، فهو النور الأعظم وهم النجوم. إلا أن الشمس بدورها ليست إلا وسيطاً بين الواحد الخير والآلهة، وبين العالم الروحاني والعالم المحسوس، إنها الصورة المرئية لله في العالم وقوته الفاعلة فيه والمنظمة لأحواله، فهي سيد وملك بإرادة من الخير الروحاني الأعلى .
وبهذه الطريقة تمت صياغة الأساس الفلسفي الذي كان يفتقد إليه إله الشمس السوري وكاهنه الإمبراطور الشاب، الذي لم يكن في حوزته من أدوات التبشير بإلهه الواحد سوى الطقوس التي لم تقنع الكثيرين في عصر يموج بالأفكار والمدارس الفلسفية .
أورليان وعبادة الشمس الإمبراطورية :
قضى أفلوطين الشطر الأخير من حياته في روما، وهناك التحق به تلميذه المفضل فورفوريوس الصوري. وفي عهد الإمبراطور غالينوس لقيت الأفلاطونية المحدثة سنداً سياسياً لها في شخص الإمبراطور الذي كان يجلس الساعات الطول إلى أفلوطين ويحاوره. وعندما اغتيل غالينوس عام 268 م، وجدت الأفلاطونية المحدثة سنداً لها في ملكة الشرق زنوبيا، التي استولت على كامل بلاد الشام ووادي النيل في محاولة لخلق إمبراطورية مشرقية موحدة ومستقلة عن روما، وربما كانت تفكر في التوجه إلى روما ذاتها. وقد التحق ببلاطها في تدمر عدد من الأفلاطونيين مثل فورفوريوس، وكلينيكوس، ولونجين الذي جعلته الملكة مستشارها الخاص وموجهاً لسياستها الخارجية .
ولكن الإمبراطور الجديد أورليان كان مصمماً على القضاء على طموحات الملكة السورية. فبعد أن استقرت له الأمور في روما توجه إلى سورية وهزم الجيش التدمري في معركتين، كانت الأولى عند أنطاكية والثانية عند مشارف مدينة حمص. وعلى ما ترويه السيرة المدونة لأورليان فإن جيش أورليان قد تضعضع في المعركة الثانية أمام استبسال جنود زنوبيا وشرع الجنود الرومان بالفرار. وفي هذه اللحظة تراءى للجنود تجل إلهي أوصاهم بمتابعة القتال، وأحرز أورليان النصر ولم يبق أمامه سوى تصفية حساب سريع مع زنوبيا التي تحصنت في تدمر. عندما دخل أورليان إلى حمص توجه إلى معبد الشمس فيها وقدم القرابين إلى إيلاجا بال الذي رأى فيه تلك القوة الإلهية التي منحته النصر. وفي عودته إلى روما مصطحباً أسيرته الملكة التدمرية، حمل معه عبادة هذا الإله وطابق بينه وبين إله الشمس الكلاسيكي هيليوس تحت اسم سول إنفيكتوس أي الشمس التي لا تقهر، وجعل منه رمزاً لوحدة الإمبراطورية التي تشرق على أصقاعها أشعة إله واحد. وقد بنى أورليان معبداً لهذا الإله في روما كانت تقام فيه احتفالات دينية بميلاد الشمس كل أربع سنوات في يوم 25 ديسمبر. كما صك الإمبراطور عملة معدنية يظهر عليها قرص الشمس كسيد للإمبراطورية وأورليان باعتباره ممثله الأرضي. وهكذا عاد إيلاجابال إلى روما في حلةٍ إمبراطورية تاركاً حجره الأسود في حمص، وتحول إلى قوة عالمية وإلهاً صالحاً لأن تعبده جميع شعوب الإمبراطورية .
في هذا الوقت كانت عبادة الشمس تتلقى دفعاً جديداً من فلسفة أخرى وعبادة شمسية أخرى، وهما الفلسفة الرواقية المتأخرة وعبادة الإله الشمسي ميثرا القادم من إيران، والذي انتزع لنفسه لقب سول إنفيكتوس – الشمس التي لا تقهر. وكانت المسيحية قد تحولت في أواسط القرن الثاني الميلادي من فرقة دينية إلى ديانة شمولية ذات طموح عالمي، دخلت في تنافس مع آلهة العبادات الشمولية الأخرى، انتهى بعد نحو خمسين سنة من وفاة أورليان إلى المطابقة بين المسيح والشمس التي لا تقهر .
الفلسفة الرواقية المتأخرة :
كانت الرواقية في نشأتها مذهباً أضعفَ ارتباطاً بأرض اليونان الأصلية من الفلسفات اليونانية الأخرى، وأشهر ممثليها كانوا من الفلاسفة الشرقيين. وقد قامت هذه الفلسفة على أفكار فينيقي من قبرص يدعى زينون (335-263 ق.م). كان اهتمام زينون أخلاقياً بالدرجة الأولى، ومن المشاكل التي عالجها والتي ظلت بعد ذلك الشغل الشاغل للرواقية هي مشكلة الحتمية (أو القدرية) وما يتصل بها من مشكلة حرية الإرادة. وهاتان المشكلتان لا يمكن فهمهما إلا على ضوء فهم التركيب الكلي للكون. فقد رأى زينون أن المادة الأصلية هي النار ومنها تنفصل العناصر الأخرى بمضي الوقت لتشكل معالم الكون، وفي النهاية يحدث حريق شامل ويعود كل شيء إلى النار الأصلية، ثم يتشكل الكون من جديد في دورات لا تنتهي من الخلق والفناء وإعادة الخلق. أما القوانين التي تُسيّر العالم فتصدر عن فعالية إلهية تحكم التاريخ بكل تفاصيله، حيث يحدث كل شيء من أجل هدف معين على نحو مقدر مسبقاً. وهذه الفعالية الإلهية هي قوة كامنة في الكون وليست شيئاً خارجاً عنه .
أما تلاميذ زينون الذين ترأسوا المدرسة الرواقية على التوالي، فقد جاء معظمهم من آسيا الصغرى وبشكل خاص من منطقة كيليكيا على البحر المتوسط، وجاء بعضهم من سورية. فقد ترأس الرواقية بعد زينون مباشرة تلميذه آراتوس من مدينة صولي القريبة من طرسوس عاصمة كيليكيا (315-240 ق.م) ، ومن أشهر مؤلفاته كتاب الظواهر Phenomena الذي درس فيه أحوال الفلك، وعقد صلة لا تنفصم عراها بين الرواقية وأحوال السماء. وقد عاصر أراتوس واحد من حلقة زينون يدعى آثينودوريوس وهو من مدينة صولي أيضاً. ومن صولي جاء كريسبوس (280-207 ق.م) الذي قدم أول عرض منهجي للمذهب الرواقي. تلاه زينون من طرسوس، ثم سلوقس من منطقة الدجلة، ثم ديوجين البابلي، ثم انتيباتر من طرسوس واثنان من تلامذته الطرسوسيين أرخيديمُس وهيراكليد، ثم بوسيدونيوس السوري الذي يوصف بأنه واحد من أهم المفكرين في التاريخ القديم، وكان أستاذاً للكاتب الروماني الشهير شيشرون، ثم آثينودوريوس الكبير وأثينودوريوس الصغير وكلاهما من طرسوس، وقد عاصر الصغير الإمبراطور أوغسطس (27 ق.م – 14 م) الذي تعلم على يديه، ثم صار حاكماً لمدينة طرسوس، وتلاه في حكمها بعد ذلك رواقي آخر يدعى نسطور، وبذلك تحقق حلم أفلاطون في دولة يحكمها الفلاسفة .
لقد قاد اهتمام الرواقيين المتأخرين بعلم الفلك والتنجيم وإيمانهم بالقدر الذي يتحكم بكل الحوادث، إلى التبشير بنوع من العقيدة الكوكبية التي ترى أن الأجرام السماوية هي كائنات إلهية، ولكن الإله الحق الأعلى هو العقل الذي يتخلل الفراغ الكوني، على حد قول كريسبوس. هذا العقل الشمولي يدعوه بوسيدونيوس السوري بالحنان الكوني الذي يجمع أجزاء العالم في وحدة لا تنفصم. ومن ناحية أخرى فقد أكد رواقيون آخرون على ألوهية الشمس واعتبروها بمثابة سيد الكون والمبدأ الناظم له. وعلى حد وصف الكاتب الروماني بليني لهذه العقيدة: " في الوسط تتحرك الشمس التي تفوق الجميع في الحجم والطاقة، وهي التي تنظم الفصول وحركة بقية النجوم في السماء، وعلى هذا يجب الاعتقاد بأنها روح الكون أو عقله." ويقول شيسترون وهو أحد مصادرنا الرئيسية عن الرواقية المتأخرة في كتابه " حلم سكيبيو " ما يلي : " إن فلك النجوم الثابتة هو الحاوي على كل شيء وهو الإله الأعلى، وتحته سبعة أفلاك تتحرك في اتجاه معاكس لحركته. في وسط هذه الأفلاك هنالك الشمس سيدة الأنوار كلها، وهي العقل والمبدأ المتحكم بالكون. " في هذه الصياغات المتعددة للعقيدة الرواقية المتأخرة، نجد أنفسنا أمام ألوهتين رئيسيتين توصف كل منهما بأنها حاكمة الكون وناظمه. فمن جهة هنالك "العقل الذي يتخلل الفراغ الكوني" أو "الحنان الكوني" أو "فلك النجوم الثابتة "، ومن جهة أخرى هناك " الشمس حاكمة العالم ". ونحن لا نستطيع التوفيق بين هاتين الألوهتين إلا إذا اعتبرناهما ألوهة واحدة من حيث الجوهر، وأن إحداهما وهي الشمس قد صدرت عن الأخرى، على طريقة الأفلاطونية المحدثة، وصارت صورتها المرئية في العالم وقوتها الفاعلة فيه .
ميثرا والميثروية :
خلال القرن الأول قبل الميلاد وفي الموطن الأصلي للفلسفة الرواقية (كيليكيا)، إبان عهد المملكة الفارسية التي أسسها ميثراديتس السادس في منطقة البنط وضمت إليها أجزاء واسعة من آسيا الصغرى، ظهرت في كيليكيا عبادة جديدة انتشرت في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية، من البحر الأسود إلى اسكتلندا غرباً وإلى الصحراء الأفريقية الكبرى جنوباً. تركزت هذه العبادة حول إله قادم من إيران يدعى ميثرا. وتقول أسطورته الأصلية أنه ولد تحت شجرة تنمو قرب مجرى مائي، حيث انبثق من صخرة على هيئة طفل عار يحمل بإحدى يديه مشعلاً يدل على أصله الشمسي (12)، (قارن مع ولادة عيسى في القرآن الكريم عند جذع نخلة يتدفق تحتها سرياً، أي مجرى مائياً – مريم : 22-23).
وقد تمت مطابقة ميثرا مع إله الشمس الكلاسيكي هيليوس في صيغته الأخيرة باعتباره الشمس التي لا تقهر، وانتزع منه لقب " سول إنفيكتوس ". ويُعبر الفن المصور الميثروي عن هذه المطابقة في العديد من المنقوشات التي يظهر فيها الإلهان وهما يتصافحان بمودة. كما يعبر الفن المصور عن دور ميثرا كحاكم شمسي للكون بطرق شتى، فنجده أحياناً منبثقاً من صخرة الميلاد وهو يحمل بيده كرة الكون، أو على هيئة شاب عار يحمل بيده اليسرى كرة الكون وباليمنى يسند دائرة الأبراج السماوية. وفي المشهد التقليدي لميثرا وهو يضحي بالثور السماوي نجد عباءته الشرقية منفتحة وراءه على هيئة قبة ترتسم عليها نجوم السماء وأبراجها، وقد يوضع هذا المشهد ضمن دائرة الأبراج، الأمر الذي يشير إلى الرمزية الكونية لمشهد القربان وصلته بالنظام السماوي. على أن ميثرا ما لبث حتى تحول تحت تأثير المفاهيم الرواقية المتأخرة إلى فكرة مجردة عن الألوهة المطلقة الخافية التي تتصل بالعالم عن طريق وسيط إلهي أدنى هو الشمس: العقل المدبر للكون وحاكمه المباشر. وهنا يعبر الفن المصور عن هذه العلاقة الجديدة من خلال مشاهد نجد فيها هيليوس راكعاً أمام ميثرا الذي يضع يده على رأسه في حركة تدل على منحه لقباً وتخويله سلطاناً .
خلال القرون الثلاثة الأولى للميلاد كانت الميثروية المنافس الرئيسي للمسيحية على استمالة شعوب الإمبراطورية، وذلك بسبب التشابه الكبير في معتقداتهما. فكلاهما كان يؤمن بخلود الروح وبالبعث والعالم الآخر، وبإله مخلِّص يؤدي الاتحاد به إلى الخلاص من ربقة الموت. هذا التشابه في العقائد وفي الطقوس المرتبطة بها أدهش المسيحيين أنفسهم فاعتبروه من صنع الشيطان، أما الميثرويون فكانوا يتهمون المسيحيين باقتفاء أثرهم واقتباس معتقداتهم. وفي القرن الرابع الميلادي بدأت الميثروية بالتراجع أمام المسيحية في كل مكان حتى اختفى أثرها. على أن المراقب لذروة التنافس بينهما إبان القرن الثاني الميلادي، بإمكانه القول أنه لو قيض للمسيحية أن تكبو في مسيرتها لسبب ما، لكان الغرب اليوم ميثروياً .
من هذا العرض (الموجز بما يكفي لغاية بحثنا) للمشهد الديني في الإمبراطورية الرومانية خلال القرون الثلاثة الأولى للميلاد، نلاحظ أن الوثنية المتأخرة المنفتحة على الأفلاطونية المحدثة وعلى الرواقية المتأخرة، كانت تتقارب مع المسيحية في صيغتها الغربية على الرغم من الصراع القائم بينهما. فقد كانت الوثنية تفارق التعددية في اتجاه نحو التوحيد، في الوقت الذي راح المفهوم التوحيدي الأصلي للمسيحية يعرض نفسه في صيغة تعددية : الآب، والابن، والروح القدس. في هذا الثالوث يلعب المسيح دور العقل المدبر للكون باعتباره الكلمة، أو اللوغوس الذي صدر عن الآب. أي إنه اتخذ دور الشمس كحاكم للعالم في الأفلاطونية المحدثة والرواقية المتأخرة والميثروية. وبذلك صار المناخ الفكري مهيئاً للمطابقة بين المسيح وسول إنفيكتوس. وهذا ما حققه الإمبراطور قسطنطين.
قسطنطين والعبادة المسيحية – الشمسية :
لقد لعب الإمبراطور قسطنطين (306-337 م) في تاريخ المسيحية الدور العظيم لان قسطنطين وبعد انتصاره في معركة جسر ميلفيان التي أكسبته عرش روما، أعلن مرسوم ميلان الشهير الذي نص فيه على الحرية الدينية لجميع الطوائف في الإمبراطورية، وعلى رأسها الكنيسة المسيحية التي رد إليها أماكن العبادة والعقارات التي صودرت منها في العهود السابقة وسمح لها بالتبشير علناً دون رقيب. وكان هذا المرسوم منعطفاً حاسماً في تاريخ المسيحية التي تحولت بعد أقل من نصف قرن إلى ديانة رسمية للإمبراطورية. وكما أطلق المحررون التوراتيون على قورش لقب مسيح الرب على الرغم من أنه لم يكن يهودياً (إشعيا 45: 1)، كذلك رفعت كنيسة روما قسطنطين إلى مصاف القديسين على الرغم من أنه لم يكن مسيحياً .
وتقول القصص التي تحدثت عن معركة جسر ميلفيان التي هزم فيها قسطنطين منافسه ماكسينتيوس، أنه رأى قبل المعركة على شمس منتصف الظهيرة صليباً نُقشت عليه عبارة " بهذه الشارة سوف تنتصر" (قارن مع التجلي الإلهي الذي ظهر لأورليان على أبواب حمص، ونُسب بعد ذلك لإله الشمس، مما أوردناه سابقاً). وبعد ذلك أمر قسطنطين بصنع راية على الشكل الذي تبدى له وأضاف إليها الحرفين الأولين من اسم المسيح (خريستوس)، رُفعت بعد ذلك في المعركة، كما أمر جنوده برسم الشارة على تروسهم ودروعهم. ونحن إذا سلمنا جدلاً بوجود أصل منطقي لهذه القصة، فلن نجده إلا في حلم رآه قسطنطين في الليلة السابقة للمعركة، ظهر له فيه إله الشمس التي لا تقهر "سول إنفيكتوس" في منتصف النهار (وهو الوقت المناسب لتجلي هذا الإله) في هيئة قرص الشمس وعليه شارة ما فُسرت بعد ذلك بأنها الصليب المسيحي. وفي الحقيقة فإن مسيرة حياة هذا الإمبراطور تؤكد لنا هذا التفسير...
على عكس ما يعتقده الكثيرون فإن المسيحية لم تغدُ الدين الرسمي للدولة خلال عهد قسطنطين، وأول الأباطرة المسيحيين هذا لم يتلق المعمودية وهي طقس الدخول في المسيحية إلا وهو على فراش الموت. إن القصة الحقيقية لتحوله إلى المسيحية ترسم أمامنا شخصية عاهل متردد فكرياً لم يكن من السهل عليها أن يتخلى عن معتقداته التي شب عليها، لا سيما عبادة الشمس الإمبراطورية، لصالح المسيح. وقد كانت مسيرته في تغيير الديانة الوطنية مسيرة حذرة راقبها كل من المسيحيين والوثنيين بوجل وترقب لما ستنجلي عنه مواقف مليكهم .
في مرسوم ميلان لم يشر قسطنطين بشكل مباشر إلى إله المسيحيين، بل اكتفى بإطلاق لقب عام على الألوهة الكونية التي دعاها " إله السماء" ، وهذا اللقب ينطبق على الإله المسيحي مثلما ينطبق على إله الشمس. كما أن هذا المرسوم لم يجعل من المسيحية ديناً للإمبراطور ولا ديناً للدولة وإنما ساواها مع بقية الديانات المعترف بها في الإمبراطورية وحَصَّنها من الاضطهاد. كما أن قسطنطين لم يُتبع مرسوم ميلان بأي مرسوم آخر ذي طابع قانوني يتعلق بالمسيحية والمسيحيين، وإنما كان على الناس تتبُّع مواقفه وتصريحاته الشخصية التي تكشف عن ميوله الخاصة لا عن مواقف رسمية حاسمة. فالإمبراطور بقي إلى ما بعد أواسط العمر مثابراً على رعاية الديانة الرومانية التقليدية وأنفق بسخاء على بناء معابد آلهتها، كما رفع أباه المتوفى إلى مجمع الآلهة وأقر له عبادة خاصة محتذياً بذلك مثال العديد من الأباطرة السابقين الذي أُلهوا بعد مماتهم. وعلى الرغم من أنه أعلن في سنواته الأخيرة أنه لن يدخل معبداً وثنياً، وعمل على تشجيع كل متعمد بمنحه ثوباً أبيض وعشرين قطعة ذهبية، إلا أنه لم يتخذ خطوة واحدة في سبيل إغلاق المعابد الوثنية وصرف كهنتها كما هو متوقع من إمبراطور قرر التحول إلى المسيحية. إن كل الدلائل تشير إلى أن عقيدته الخاصة كانت مثل أورليان موجهة نحو إله الشمس الذي اشتُهر في كل مكان بأنه الحامي الخاص للإمبراطور. ولكن هذا الإله كان يتوحد تدريجياً في عقله بالمسيح الذي قال عن نفسه في إنجيل يوحنا: " أنا نور العالم" (يوحنا 8: 12). وقال : " آمنوا بالنور ما دام لكم النور، فتكونوا أبناء النور" (يوحناً 12: 36).
ومع ذلك فقد مجدّت الكنيسة فضائل نصيرها الكريم، وكان اسمه يذكر مضافاً إليه لقب "المساوي للرسل"، ولكنها غضت الطرف عن عيوبه وسقطاته التي لا تتناسب مع هذا اللقب، وكانت المهمة غير المحببة لنفس أسقف روما هي التستر على فظائعه الكثيرة وتبريرها، لا سيما قتله لابنه الأكبر من زوجته الأولى المدعو كريسبوس. كان هذا الابن محبوباً من قبل الجميع لثقافته وعلمه وبسالته، وكان الشعب يهتف باسمه إلى جانب اسم أبيه. ولكن سرعان ما أثارت هذه الشعبية المحفوفة بالمخاطر انتباه الأب الذي كان في الجزء الثاني من حياته يتوجس خيفة من انقلاب موهوم عليه. وقد غذّا الوشاة هذا الوهم حتى تحول في ذهنه إلى حقيقة، وكان المتهم الرئيسي في المؤامرة هو الابن التعس الذي خضع لمحاكمة سرية قصيرة وجرى إعدامه. وبعد فترة أعدم زوجته الثانية التي أنجبت له عدة أولاد بتهمة الزنا مع أحد العبيد، ولكن هذه التهمة لم تكن إلا واجهة ستر وراءها شكوكه بصلة لها بالمؤامرة المزعومة التي أثبت الزمن بعد ذلك بطلانها .
لقد كان قسطنطين يهدف على ما يبدو إلى توحيد الإمبراطورية دينياً بعد أن أعاد إليها الوحدة السياسية. وقد توجه تفكيره في البداية نحو صياغة الإيديولوجيا الإمبراطورية حول الإله سول إنفيكتوس. فالشمس في سطوعها على أصقاع الإمبراطورية هي خير رمز يعبر عن وحدتها، ثم أخذ يجد ضالته تدريجياً في النزوع العالمي للمسيحية ولكن من غير أن يتخلى عن سول إنفيكتوس، لا سيما وأن عبادة هذا الإله كانت توحيدية في جوهرها. وتُعبّر التماثيل التذكارية التي نصبها قسطنطين عن هذه النزعة التوفيقية التي تحكمت بتفكيره. من ذلك مثلاً التمثال الذي أمر بنصبه على عمود بورفيري في عاصمته الجديدة القسطنطينية، والذي يمثل الإمبراطور على صورة إله الشمس هيليوس وهو يحمل بيده كرة العالم التي ارتفع عليها الصليب (قارن مع صور ميثرا التي أشرنا إليها أعلاه)، وعلى قاعدة العمود نقشٌ يقول : " قسطنطين الذي يضيء مثل الشمس" ، وكان نظر التمثال يتجه نحو الأعلى إلى الشمس الطالعة. وهناك ميداليات ذهبية يظهر عليها الإمبراطور وإله الشمس كتوأمين. ومنذ عام 324 أقر قسطنطين صك نقود معدنية عليها صورته وهو رافع يديه نحو الشمس، أو صورة إله الشمس وهو يظلل القيصر الذي يحمل بيده لواء الصليب، أو صورة الشمس منفردة وهي ترسل أشعتها في كل اتجاه. وعلى قوس النصر الذي بناه يظهر إله الشمس إلى جانب الإلهة فيكتوريا ربة النصر وأمامهما يقف القيصر .
ولم يبق على قسطنطين إلا أن ينتظر إعلان السلطات الكنسيّة رسمياً ألوهية المسيح من أجل أن تكتمل في ذهنه المطابقة بين سول إنفيكتوس، والمسيح وهذا ما تم في مجمع نيقية عام 325 م الذي دعا إليه الإمبراطور من أجل توحيد وتنميط العقيدة المسيحية. فقد أقر المجتمعون أن يسوع المسيح هو اللوغوس، أو العقل الكوني المنبعث عن الآب والمساوي له في الجوهر .
وهكذا توفرت كل الأسباب الداعية إلى اعتبار يوم 25 ديسمبر/ك1 بمثابة يوم ميلاد يسوع المسيح. وهذا ما أقره قسطنطين عندما قدس يوم الأحد الذي كان يوماً مقدساً عند طائفة ميثرا وجعله يوم عبادة وراحة للمسيحيين بدل يوم السبت اليهودي، كما قدس يوم 25 ديسمبر باعتباره يوم ميلاد المسيح، وهو يوم ميلاد ميثرا وبقية الآلهة الشمسية. ففي هذا اليوم تبلغ الشمس أقصى مدى لها في الميلان عن كبد السماء ويبلغ النهار أقصى مدى له في القصر، ثم تأخذ في الارتفاع تدريجياً كل يوم ويأخذ النهار في الزيادة على حساب الليل. لقد انتصرت الشمس التي لا تقهر .
بعد نحو عقدين على وفاة قسطنطين أقر البابا ليبيريوس في عام 353م يوم 25 ديسمبر باعتباره التاريخ المعتمد لميلاد المسيح .
*المقال كاملاً عن الدكتور فراس السواح
ابقيناه بدون تلخيص لما فيه من شروحات هامة