الثقافة والأيديولوجيا ...

{clean_title}
الشريط الإخباري :  
الثقافة والأيديولوجيا ...
بقلم / د. عبد الرحيم جاموس
لا يعترف الأيديولوجيون على كافة أشكالهم وأصنافهم بالثقافة المتنوعة خارج إطار وحدود أيديولوجيتهم الخاصة، سواء كانت هذه الأيديولوجيا وضعية مثل ((الماركسية)) وغيرها أو تلك الأيديولوجيات التي ارتكزت على مفاهيم دينية حيث وضعت الدين في قالب أيديولوجي سياسي معين ...
الأيديولوجيا تقسم البشر دائماً إلى فسطاطين لا ثالث لهما أو بينهما، إما حق وإما باطل، إما خير وإما شر، وتضع نفسها ((الأيديولوجيا)) في مواجهة الجميع ممن يختلف معها وترفض أية أفكار أو ثقافات تقوم على أساس التعدد والتنوع الثقافي والمعرفي والمصلحي، فالأيديولوجيا تختزل مفهوم الثقافة، بمفاهيمها وعلى مقاسها التي تسعى إلى تطبيقه على الواقع وعلى الجميع، وهذا ما يتناقض مع الفطرة الإنسانية، التي فطر الله عليها البشر، كما فطر الطبيعة بكل مكوناتها على التنوع والتعدد، وبالتالي يصبح الأيديولوجي أسير القوالب الجامدة التي حشر نفسه فيها ويسعى لحشر الآخرين معه، كما يسعى إلى تحجيم الواقع على قياسها، وبالتالي يسقط السقطة الكبرى في وضع نفسه في مواجهة الغير المتنوع، والواقع المتعدد العنيد الذي يستحيل فرض النموذج الأيديولوجي الخاص عليه وتماثله معه، لقد كان مصير الأيديولوجيات الاصطدام مع الغير المتعدد والمتنوع الثقافات والأهواء والمصالح، على عكس الثقافي المنفتح الذي اعتمد سنة الله في خلقه والقائمة على اعتماد قاعدة التنوع والتعدد في البشر وفي الطبيعة، والتباين في الظروف والإمكانيات وفي إختلاف الثقافات والحضارات، وتغير الأزمان، وفي تنوع المصالح التي تتقاطع أو تتلاقى أو تتعارض، تلك هذه سنن كونية، لابد من الإحاطة بها، وتقديرها في التعاطي مع الواقع، ومع الغير، والإعتراف بها وبالآخر المختلف، وفق قوانين وضوابط تراعي حرمة الإنسان وحريته وكرامته كونه إنسان ولد حراً، وفُطر على الحرية والمساواة.
الأيديولوجيا يرى فيها البعض أنها منتجة للأفكار، ولكن الحقيقة تمثل بدائية فكرية وبدائية ضيقة لا تتسع للواقع الفكري المعاش والمتطور بتطور الزمن، ولا تتسع للتنوع البشري، في حين أن الثقافة هي شاملة وواسعة للواقع ومتغيراته، وتنوعه، وتنوع أفراده، على مستوى الزمان والمكان وإختلاف الشعوب والحضارات.
تلك الإشكالية الجوهرية لا زالت قائمة ومحتدمة ما بين الفكر الأيديولوجي الذي يسعى إلى فرض فهمه في كل شيء وعلى كل شيء، وما بين الفكر الثقافي الذي يسعى إلى فهم كل شيء، والتعاطي مع كل شيء، وفق آليات وضوابط تراعي تلك المتغيرات وقوانينها الطبيعية، كما تراعي إنسانية الإنسان وحرمته وحقه في العيش بكرامة وحرية وعدل ومساواة، وتتفهم ظروفه وأحواله في الزمان والمكان.
سيبقى التناقض والتعارض قائماً بين الأيديولوجي والثقافي، وسيبقى هذا التناقض منتجاً للصراعات والاختلالات البينية على مستوى الجماعة الواحدة فيما بينها، وعلى مستوى الجماعات المتعددة الأخرى، إلا أن الغلبة دائماً ستكون للفطرة القائمة على التعدد والتنوع والفكرانية الثقافية، وهذا ما تدفع ثمنه اليوم مجتمعاتنا العربية والإسلامية جراء من اعتمدوا الدين وحولوه إلى ((أيديولوجيا)) سياسية ضيقة وفق فهمهم الخاص له ومحاولة فرض هذا الفهم على الآخرين بالعنف، هذه الإشكالية التي تدفع اليوم المجتمعات العربية والإسلامية ثمناً باهظاً لها من أمنها ونموها وإستقرارها، ولكنها هي المقدمة لإدراك ضرورة الانتقال إلى الوعي الجمعي الثقافي الذي سيتأسس على أساسه نهضة وبناء وتقدم المجتمعات العربية المعاصرة.
د. عبد الرحيم محمود جاموس
عضو المجلس الوطني الفلسطيني
E-mail: pcommety @ hotmail.com
الرياض 30 /12 / 2019م
© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences