نعم العاصمة الأردنية في عمق التصعيد الحاصل اليوم بين واشنطن وطهران، وهذا ما لا مفر من انكاره خاصة بعد اغتيال الجنرال النافذ في الحرس الثوري قاسم سليماني.
في المرحلة السابقة، والتي كانت تتضمن التصعيد في مضيق هرمز، تعاملت العاصمة الأردنية ببعض التجاهل مع مجريات الأمور، في الوقت الذي هي تعلم فيه جيدا هذه المرة انها في العمق أكثر مما ينبغي، حيث "حلبة التصعيد المتوقعة” في العراق أي على حدود الأردن الشرقية وقد تطال إسرائيل أو تطال بغداد من جانب إسرائيل، وهما خيارات يعنيان استخدام المجال الجوي الأردني سواء من جانب ايران او إسرائيل، وان بدت الثانية اقرب لفعل ذلك.
في هذه الحالة قد تعود العاصمة الأردنية لتصطف اصطفافاتها القديمة (كما في سوريا تحديدا) القريبة من واشنطن وتل ابيب، الا ان الحالة اليوم اخطر بكثير على المستوى الاقتصادي للأردن، خاصة بعد خفوت الأضواء الحمراء الإيرانية على التعاون التجاري العراقي الأردني قبل التصعيد الأخير(بين طهران وواشنطن)، وبدأت معالم الحياة بين الدولتين بالظهور.
عمان ولسنوات عانت عمليا من الكلمة العليا لإيران في العراق وسوريا، الأمر الذي انعكس على اقتصادها بينما اختارت هي بتنسيق مع واشنطن ألا توصل علاقتها مع طهران لأي مستوى وابقائها في اطار مجمّد، منذ اقتحام السفارة السعودية في مطلع عام 2016.
قبل أسبوعين فقط، وبالمقابل، بدأت تنمو إشارات تفكك الفيتو الإيراني على العلاقات الاقتصادية الأردنية العراقية، اذ بدأ العمل على خط نفط العقبة- البصرة، وبدأت ملامح انفراجة حقيقية، بالتزامن مع الازمة الاقتصادية التي يحياها العراقيون المدفوعين بها الى الشوارع.
"قوات الناتو”.. هل تنتهز الفرصة عمّان؟..
بهذا المعنى يفترض على عمان ان تحسب حساباتها بدقة، خاصة وان توقيت التصعيد يمكنه ان يمنح الأردن "تسريعا” في خطط مؤسسات الناتو (حلف شمال الأطلسي) التي من المتوقع اقامتها في محافظات اردنية وفق معلومات حصرية حصلت عليها "رأي اليوم”.
التوقيت الحالي في التصعيد، يعني فتح احتمالات خروج الجنود الأمريكيين من العراق، الامر الذي يمكنه ان ينتهي بهم في الأردن، وهي خطط مؤجلة لدى حلفاء الناتو، حيث يعيدون ترتيب اولوياتهم ضمن رحلة للتخلي عن تركيا تدريجيا، ويمكن لعمان في هذا الاتجاه ان تكون بديلا ناجحا.
القوات الألمانية تحديدا ترى في قاعدة موفق السلطي التي تستخدمها منذ منتصف عام 2017 خيارا جيدا للاستمرار في استخدامها، وربما توسيعها، وهنا تأتي خطط فعلية بحثها مسؤولون أوروبيون مع نظرائهم الأردنيين، ضمن مشروع كبير كان يستهدف تحويل الأردن الى البلد المستضيف لاكبر عدد من منشآت الناتو الاستخبارية والبحثية بما في ذلك مطار وقواعد عسكرية، الى جانب بعض الجنود.
اليوم قد يتغير المشهد، اذ عدد من جنود الناتو انفسهم عالقين في العراق، بعد تعليق التدريب هناك والذي كان بقيادة كندا للقوات العراقية. بينما جدل واسع في المانيا حول القوات الألمانية هناك، الى جانب المظاهرات في الولايات المتحدة أيضا ضد إبقاء الجنود الامريكان في العراق.
هؤلاء كلهم قد يتحولوا الى عمان ان قررت استغلال اللحظة بهذه الصورة، وهي واعيةٌ بان استغلال المرحلة الحالية يحمل الكثير من التصعيد المتوقع والذي قد لا يستثنيها في حال وجود جنود امريكان تحديدا. هنا على الاغلب تعرف العاصمة الأردنية ان قاعدة الدوحة في الكويت هي الأكثر ترشيحا لاستقبال أي جنود أمريكيين خارجين من العراق، رغم ان بعضهم قد يضطر للخروج من العراق عبر الأردن.
وسط دائرة اللهب..
هذا كله عسكريا ودوليا، في الوقت الذي فيه يتأهب الأردن عسكريا لتطويق حدوده الأربعة وبصورة من الواضح انها قد لا تشكل للاردن افضل خياراته، تحديدا عندما يتعلق الامر بالحدود مع إسرائيل، والتي اليوم باتت مثار جدل لا ينتهي بعد اكتشاف ان السلطات قررت فجأة تجريف مساحات واسعة من محمية الفيفا (الاخفض على وجه الأرض) وتجريدها بمساحة 1600 دونم، وما يعادل 140 الف شجرة حرجية، الامر الذي عزته الدولة لاعتبارات امنية.
طبعا ملف المحمية، علق فجأة بين الجمعية الملكية لحماية الطبيعة، والحكومة، وهنا يمكن مراقبة التشكيك المبطن من الأولى بالاسباب الامنية التي تدّعيها الثانية لهذه العملية. بهذه الحالة وبكل المعاني تخسر عمان واحدة من اثمن ثرواتها الطبيعية دون تحديد المكاسب الأمنية، رغم ان الجبهة الغربية للاردن تبدو الأكثر اشتعالا ببطء ودون حرب، إذ تراقب العاصمة الأردنية تحركات الإسرائيليين في مناطق متعددة وهي الاغوار والقدس والضفة الغربية، والتي كلها تعني المزيد من الخطر على امن الأردن او شرعية نظامه.
الفرق بين ما يحصل غربا وما يحصل في أي حدود أخرى هو ببساطة ان القضية الفلسطينية ووفق منطوق العقيدة العسكرية والقصر هي "مشكلة اردنية” أي ان عمان ستضطر للاشتباك معها مباشرة. في حين ان أي اشتعال في الجبهة الشمالية او الشرقية او الجنوبية لن يشكل مشكلة اردنية وعلى عمان التعامل معها، حتى وان صرّحت بغير ذلك، وهذا بالطبع لا يمنع التداعيات الكثيرة على الاردن.
التصعيد الإسرائيلي الإيراني او حتى الإسرائيلي العراقي، لا يزال يبدو بعيدا اليوم، ولكن الأردن على الاغلب سيتعامل معه على انه- وفق المثل الشعبي- "عرس عند الجيران” كما اعتاد ذلك في التصعيد على الجبهات المحيطة.
السعودية على الاغلب انها واحدة من الدول التي تحوي أهدافا لإيران وحلفائها في المنطقة، والتهديد الحوثي بضرب 6 اهداف فيها كان أصلا واحدا من الاستراتيجيات التي أعلنت بمجرد الضربات الخمس الأخيرة من واشنطن على مواقع حزب الله العراقي، وهذا يعني ان عمان تحتاج عمليا لتفعيل استخباراتها وحماية حدودها الجنوبية من أي تداعيات محتملة اليوم بعد اغتيال الجنرال سليماني والقائد في الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس ومعهما 5 اخرين.
سوريا تكمل الطوق حول الأردن باحتمالات التصعيد فيها وعبرها ضمن استراتيجية ايران الدفاعية او حتى استراتيجية واشنطن- تل ابيب الهجومية، هنا أيضا فوضى اختبرتها عمان وتعلم جيدا الية التعامل معها.
الاشكال الحقيقي بهذا المعنى سيكون في التعامل مع تصعيد إسرائيلي حقيقي، حيث يدرك الأردن انه اليوم دخل اتفاقية الغاز مرغماً وكذلك منتدى غاز شرق المتوسط، كما يعرف انه بالضرورة مكبّلٌ تماما بالنسبة للتعامل مع تركيا من جانب دول الخليج من جهة وواشنطن من جهة ثانية.
اما على صعيد ايران فيبقى التصعيد الخطر على عمان في حالتين واضحتين، الأولى ان تغير ايران (او واشنطن) تصنيف الأردن لديها وتغامر بتنفيذ أي رد او هجوم او غيره عبر الاردن وبالتالي تستوجب ردا اخر عبر الأردن او فيه، وهنا حالة حربٍ مفروضة على الأردن وسيضطر للتعامل معها؛ أو ان تبدأ حرب "كل مكان” المفتوحة، والتي سيكون من الصعب على الأردن التعامل مع تفاصيلها لغياب الخبرة في سياقها.
بكل الأحوال، الحالتان المذكورتان لا تبدوان اليوم الأقرب للواقع، اذ يتوقع الاستمرار في التصعيد باستهدافات متبادلة اكثر من الذهاب لسيناريو عسكري شامل. ويبقى هنا الأهم ان تكون عمان عمليا تحمل في جعبتها خططها واولوياتها، فالاكيد ان المنطقة قبل اغتيال سليماني لا تشبه المنطقة بعده، وهذا التغير تجلبه اما حربٌ كبرى أو تسوية شاملة، وعلى الاغلب إسرائيل بدأت تحصد ثمار الثانية قبل الجميع